كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه من الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل فحدثت البلاد لهذه الضرورة.
ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت.
فأما المرأة فتخاصم الزوج والولد يخاصم الأبوين هذا في المنزل.
وأما أهل البلد أيضا فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعا لهلك ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكأن لا يذعن له فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى.
فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم العدل.
ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم.
ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها.
فهذه أمور سياسية لابد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلا تعطلت الصناعات ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة فتحدث الحاجة إلى الخراج ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصا ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال.
ثم هؤلاء أيضا يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الفرع مع مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاث طوائف الفلاحون والرعاة والمحترفون.
والثانية الجندية الحماة بالسيوف.
والثالثة المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى.
وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسببه أبواب أخر وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى وهكذا على التوالي فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به وأعلاها الأغذية ثم الأمكنة التي يأوى الإنسان إليها وهي الدور ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته ثم آلات الآلات وقد يكون الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد والبقر آلة الحراثة والفرس آلة الركوب في الحرب ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده للآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة إلا أن النجار مثلا إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجا باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعا في الربح وكذلك في جميع الأمتعة والأموال ثم يحدث لا محالة بين البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم إذ كل بلد ربما لا توجد فيه كل آلة وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل فيحدث التجار.
المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاما للبلاد ومصلحة للعباد بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة.
ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضا ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة ويصير الكراء نوعا من الاكتساب أيضا ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاما بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب فلابد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم.
وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم وشي من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه عنه مانع فيبقى عاجز عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره فيحدث منه حرفتان خسيستان اللصوصية والكداية إذ يجمهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير أما اللصوص فمنهم من يطلب أعوانا ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة وإما بأن يكون طرارا أو سلالا إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فمالك والبطالة فلا يعطي شيئا فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق ليكون ذلك سبب الرحمة وجماعة يلتمسون أقوالا وأفعالا يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت والشعر الموزون أشد تأثيرا في النفس لاسيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رءوس المنابر إذا لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين وكل ذلك استنبط بدقيق الفكرة لأجل المعيشة فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه.
فطائفة غلبهم الجهل والغفلة فلم تنفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة أمورهم فقالوا المقصود أن نعيش أياما في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب ثم نكسب حتى نأكل فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا وهذا مذهب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين فإنه يتعب نهارا ليأكل ليلا ويأكل ليلا ليتعب نهارا وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت.
وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر.
وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا وبخلا عليها أن تنقص وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك ولا يعتبرون وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال: أنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس.
وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة وأن ذلك غاية المطلب وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعرف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم وأضلهم في الإعراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف.
فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لابد أولا من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عبادة العباد لا ينقصه عصيان عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.
وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف وإنما التكليف على عوام الخلق ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفا وسبعين فرقة وإنما الناجي منها فرقة واحدة وهي السالكة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل ما خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد ومن الكسوة كذلك حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر وبقي ملازما لسياسة الشهوات ومراقبا لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال الناجي منها واحدة قالوا يا رسول الله ومن هم قال أهل السنة والجماعة فقيل ومن أهل السنة والجماعة قال ما أنا عليه وأصحابي. حديث افتراق الأمة وفيه الناجي منهم واحدة قالوا ومن هم قال أهل السنة والجماعة الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه تفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة فقالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه وأصحابي ولأبي داود من حديث معاوية وابن ماجه من حديث أنس وعوف بن مالك وهي الجماعة وأسانيدها جياد.
وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط بل كان أمرهم بين ذلك قواما وذلك هو العدل والوسط بين الطرفين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى. اهـ.